الرئيسية
أحدث الصور
"عابد " .. في محراب الفن الدرامي
حين يكون الفنان مثقفا ، يستطيع أن يلامس المشاعرالإنسانية الصادقة ، ودون عناء يمكنه العزف على أوتار القلب والعقل معا في سيمفونية رائعة وصولا إلى بواطن النفس البشرية الخفية تاركا فيها أكبر الأثر ، لدى جمهور يتعطش للفن الراقي في ظل أشواك وعثرات الدراما الحالية التي تكرس في غالبيتها لمناخ من الفوضى والعشوائية .
وما بالك أن يملك نفس الفنان وعيا صادقا بقضايا وطنه وأمته ، حاملا فوق أكتافه هموم وآلام وأحزان وانكسارات هذه الأمة في لحظة تاريخية أقل ماتوصف بالضبابية .
فنان بهذا المعنى والمبنى للشخصية لابد أن تقف أمامه بقدرهائل من التقدير ، وتمنحه أوسمة من الفخار التي تزين صدره بالحب والاحترام ، خاصة إذا كان فوق هذا وذاك يملك روح المغامرة بالمال والجهد والعرق الفني الخالص لعروبته .
إنه الفنان المبدع " عابد فهد " الذي كان علامة بارزة في لوحة دراما رمضان هذا العام عبرمسلسله الرائع جدا " عرب لندن " والذي قدمه للشاشة العربية تمثيلا وإنتاجا مشتركا ، يعبر من خلاله عن دراما المغتربين التي تعد نوع من الدراما المختلفة والجديد تماماً على المشاهد العربي ، والاختلاف هنا يكمن برصد أحوال العرب المغتربين ( عرب الخارج ) ونقل معاناتهم والألم الذي يعيشه غالبيتهم بعد حلم الهجرة الكبير الذي كانوا غارقين بسطوته ، ولعل كثيرين منا في كافة أرجاء وطننا العربي يعلم جيدا بل ربما يلمس واقعا وتجاربا عديدة في هذا الصدد ، حيث هناك أناس هاجروا بالفعل وحملوا معهم عاداتهم وتقاليدهم وذهبوا إلى لندن بحثاً عن الحرية والديمقراطية لكنهم اكتشفوا سراب الحرية والديمقراطية وأنها غير متاحة لجميع الناس على السواء، كما أنها في الأساس لا تنسجم مع متطلباتهم وأهدافهم في ظل موروث من القيم والعادات والتقاليد تقف بمثابة سور عازل بين الحلم الرومانسي والواقع العملي ، أو على أقل تقدير هناك حدوداً لحرية العرب في الغرب وحدوداً للديمقراطية ، وتبقى المشكلة الأكبر أن هؤلاء قد أنجبوا في تلك البيئة والظروف الحياتية المغايرة لطبيعة النشأة الأولى ، ومن هنا بدأ صراع محموم بين الأجيال على أثره حدث شرخ كبير بين الآباء والأبناء الذين تزوجوا من جنسيات مختلفة فجاء جيل ثالث تمرد على عروبته ووطنه وبعضهم لا يعترف حتى بأنه عربي وبذلك ضاعت الهوية.
تلك هى الهموم التي تعالجها دراما ( عرب لندن ) والتي قصد بطلها عابد فهد ومعه المؤلف والمخرج الكبير " أنور قوادري " أن تكون مباراة ساخنة في فن الأداء والتجسيد الدرامي الشفاف لشخصيات تحمل في شراينها دماء ساخنة قادمة من قلب حرارة الشرق العربي المفعم بالأسى والحزن والانكسار إلى عمق أجواء أوروبا – لندن - الباردة في مشاعرها ، المجحفة في قوانيها ، والصارمة في عاداتها وتقاليدها الجامدة التي تمعن في العنصرية ، ليصبح المسلسل أو بتعبير أكثر دقة تلك " القطعة الفنية النادرة " في النهاية لوحة تشكليلية من لحم ودم تتصف بالإبداع عبر هذا الزخم الهائل من رقي الأداء التمثيلي الذي أصاب كوكبة من الفنانين العرب - على اختلاف مشاربهم - استحقوا جميعا أدوار البطولة التي انشطرت بوهجها وبريقها الآخاذ طوال حلقات المسلسل الثلاثين وتناثرت على وجوههم الغضة الندية.
ولأنه "عابد " في محراب الفن الدرامي الصادق و" فهد " يتسم بالوعي والنضج والثقافة العروبية ، فقد سعى من خلال " عرب لندن " لأن تكون هناك وحدة عضوية عربية قوية متآلفة ومتماسكة على جناح الدراما ، عبر ممثلين منهم : من مصر " القدير توفيق عبد الحميد ومعه نهال عنبر، نيرمين الفقي ، ياسر فرج ومروة عبد المنعم ، سوريا " الرئعان جهاد سعد وباسل خياط ومعهما واحة الراهب " ، الإمارات " إبراهيم الزجالي " ، السعودية " خالد سامي " ، فلسطين " العالمي محمد بكري ومعه ياسمين المصري " ، الأردن " ميس حمدان " فضلا عن فنانين كبار من المغرب وبريطانيا واليونان .
وعلى الرغم من اختلاف اللهجات واللغات التي جاءت في سياق الحوار فإنك سوف تلمس نعومة شديدة في ربط الأحداث على لسان الممثلين ، ولايمكن أن تشتم رائحة تفاوت في أداء أي من الطرفين على حساب الآخر داخل المشهد الواحد من مشاهد في مجملها اتسمت بالثراء الفني والفكري رفيع المستوى ، ناهيك عن حرارة ودفء المشاعر الصادقة التي لمسناها جميعا بين الحبيب السوري الأصل " سامي " الذي يجسد شخصيته عابد فهد وكلا من حبيبتيه الإنجليزية " سالي " ، و" منى " التي تنحدر من أصول عربية على إختلاف المستوى المعيشي والثقافة والعرق والظروف النفسية والاجتماعية والجروح العميقة العالقة في نفس مهاجر ترك حبيبته في بلده – الأصل - مغادرا إلى لندن بحثا عن مال يحقق أحلامه التي سرعان ماتمزقت أوصالها على أرصفة لندن وساحاتها الفشيحة وصقيعها البارد جدا ، وفي زحمة الحياة كان طبيعي جدا أن تنفرط سنوات العمر في تلك الأجواء تفتقد دفء الشمس على أثر الانكسارات التي عناها غالبية الشخصيات وعلى رأسهم البطل .
وعلى ذات الإيقاع تأتي كل علاقات الحب وعلاقات الصداقة والأخوة في سياق المسلسل الذي يصل إلى حقيقة مهمة جوهرها : ليس ثمة مايفرقنا كعرب " مسلمين ومسيحين " بقدر ما يعتري حياتنا من وشائج وصلات تضرب بجذورها في عمق تربة الأصالة العربية ، بل أن ثمة حبل سري لاح لنا في الأفق خلال هذا العمل الدرامي الناضج يمكن أن يصل الماضي بالحاضربالمستقبل العربي الواحد ليصنع المصير الواحد والمشترك ، رغم ما يحيط بنا من عوامل الفرقة ومؤمرات الغرب الذي يستهدف مواردنا وثرواتنا وتراثنا وحضارتنا التي أضاءت وجه العالم القديم.
لقد وضع الفنان عابد فهد يده على جرح نازف حين قال : لو افترضنا أن نسبة المهاجرين العرب في بلدان الاغتراب تصل إلى ثلاثين بالمئة من مجموع المواطنين العرب ، وهو ما يعني أن هناك عدداً كبيراً من العرب لا يعرفون أوطانهم ولا تاريخهم ولا جغرافيتهم ، وتلك هموم أخرى تضاف إلى الهم الأكبر في الداخل العربي .
أليس ذلك كله جديرا بالاهتمام من جانب شركات الإنتاج الحكومية والخاصة لتوجيه دفة اهتماماتها نحو قضايا من نوعية هذا المسلسل بدلا من تلك القضايا المكررة والمملة والسلاسل العبثية الغارقة في موضوعات الثروة والسلطة والنفوذ وغيرها من وجبات درامية تفتقد إلى أبسط قواعد وأصول العمل الفني الذي يجلب المتعة ، خاصة أن الاعمال الدرامية وكما نعرف تثير في الانسان غريزة من أهم الغرائز البشرية وهي غريزة المحاكاة والتقليد ، وهو ماأكد عليه أرسطو بقوله : إن المحاكاة هي الأصل في الفن ، أي أن الفنون كلها إنما هي مظاهر من المحاكاة ، والمحاكاة غريزية في الانسان وهذا ما يميز الانسان عن الحيوان ، فلقدرته على المحاكاة كان الانسان قادرا على التعلم ، وولع الانسان بالمحاكاة يرجع الى أنه يحصل منها على المتعة ، والمحاكاة هي وسيلة من وسائل الحصول على المعرفة ، فضلا عن وظيفة مهمة للدراما في وقتنا الحالية وهى أن انسان هذا العصريعاني كثيرا من هموم الحياة وضغوطها ويجد في التمثيلية والمسلسل متنفسا له من هذه الهموم .
هوامش :
* توفيق عبد الحميد ( الحاج بيومي ) .. مدرسة راقية في فن الأداء التمثيلي السلس الهادئ الناعم والواع تماما بما يفعل ، هو مرادف للسهل الممتنع ، ينبغي أن نغض الطرف عنه طويلا لحساب أصحاب الصوت العالي من أولئك الذين يتشدقون بالريادة والتطور ليل نهار في الفضاء العربي ، فمثل هذا الفنان الصادق هو تجسيد حي لقمة الريادة وصدق النجومية العاقلة التي لاتعرف الزيف بل تستند إلى فكر و فلسفة وقيمة حقيقية أظنها ستبقى زخيرة حية له في سجل حافل بالفخار.
* جهاد سعد .. طاقة هائلة وقدرة فائقة في فن التجسيد ، داخله بركان يغلي بالموهبة وخارجه مساحات رحبة من الهدوء الإنساني الذي يستفز فيك بواطن القوة والشموخ ، ورغم حالات الانكسار والهزائم النفسية التي لحقت به كعربي مشرد في قلب الصقيع ، لاتفارقه ابتسامة وادعة وحركات بهلوانية " زورباوية " غاية في الرشاقة التي تترك في النفس غصة وفي الحلق مرارة السنوات العجاف ، لقد كانت إيماءاته في لحظات الانسحاب الأخير غاية في بلاغة الصمت الموحش ، تلخص تاريخ " عرب لندن " وتعيد رسم خرائط النفس البشرية العربية المكلومة في غياهب الغربة المحزنة .
* باسل خياط .. رومانسية حالمة وعاقلة في سياق فني بديع ، مغلفة بروح القوة والتحدي في اجتياز أصعب الدروب نحو مستقبل مفروش بورود الأمل الذي يربط بين الجذور والفروع ، إنه فنان حقيقي يمكنه أن يعيد رمن افتقدنا فيه مواصفات النجم والبطل الذي كان يلهب المشاعر والقلوب الملتاعة بالحيرة والأسى .
* مروة عبد المنعم .. براءة حالمة تغطيها مساحات من الظل والنور، ومن فوق ذلك فطرة مصرية تحمل كل معاني الطيبة النابعة من نهر النيل الذي مازال يجري بالخير، أظهرت نضجا ملحوظا ومرونة وانسيابية في الأداء عبر حركات احترافية أمام الكاميرا نقلتها إلى الصفوف الأولى على سلم النجومية الواعية والواعدة .
* محمد بكري .. خبرة وحنكة وقدرة أسطورية على اختصار أعمار طويلة في مشهد تمثيلي يتسم بالثراء المبطن بزبد البحر وموجه الهادر بالموهبة وفورة المحيطات العميقة وحتى الخلجان التي تشق الجبال في تيه وخيلاء . إنها العزيمة الفلسطينية التي لم يثنها غبار السنين والغربة الطويلة ، ليتنا ندرك ونتعلم من هذا الفنان العملاق الدرس الأول في الآداء الصادق والتجسيد الحي النابع من خبرة السنين .
* ياسمين المصري .. موهبة متدفقة ، مثل هديل حمام يتوق للتحليق طويلا وإلى الأعلى ، في نصف ابتسامتها الحزينة حينا ومرحها الطفولي حينا آخر تشتم فيها أريج برتقال يافا ، وبهاء قبة الصخرة وفي تمردها تلمح شموخ وطن محفورفي ذاكرة منسية على شكل خارطة مازلت تعرف كيف تتخطى الجدران العازلة وتصل لعمق التراب النفيس في أرجاء فلسطين .
* إبراهيم الزجالي .. طعم مختلف للخليج العربي تستشعره وتحسه وتلمسه باصابعك ، إنه ألق الموهبة حين تخالط فيه حرقة الصحراء بكثبانها الرملية الناعمة سحابات أوروبا الرمادية في مشهد واحد يكشف عن بريق الفضة والذهب معا في نسيج يجمع بين القوة واللين ويعكس شموخ العربي حين يحن للجذور.
المصدر : ايلاف
حين يكون الفنان مثقفا ، يستطيع أن يلامس المشاعرالإنسانية الصادقة ، ودون عناء يمكنه العزف على أوتار القلب والعقل معا في سيمفونية رائعة وصولا إلى بواطن النفس البشرية الخفية تاركا فيها أكبر الأثر ، لدى جمهور يتعطش للفن الراقي في ظل أشواك وعثرات الدراما الحالية التي تكرس في غالبيتها لمناخ من الفوضى والعشوائية .
وما بالك أن يملك نفس الفنان وعيا صادقا بقضايا وطنه وأمته ، حاملا فوق أكتافه هموم وآلام وأحزان وانكسارات هذه الأمة في لحظة تاريخية أقل ماتوصف بالضبابية .
فنان بهذا المعنى والمبنى للشخصية لابد أن تقف أمامه بقدرهائل من التقدير ، وتمنحه أوسمة من الفخار التي تزين صدره بالحب والاحترام ، خاصة إذا كان فوق هذا وذاك يملك روح المغامرة بالمال والجهد والعرق الفني الخالص لعروبته .
إنه الفنان المبدع " عابد فهد " الذي كان علامة بارزة في لوحة دراما رمضان هذا العام عبرمسلسله الرائع جدا " عرب لندن " والذي قدمه للشاشة العربية تمثيلا وإنتاجا مشتركا ، يعبر من خلاله عن دراما المغتربين التي تعد نوع من الدراما المختلفة والجديد تماماً على المشاهد العربي ، والاختلاف هنا يكمن برصد أحوال العرب المغتربين ( عرب الخارج ) ونقل معاناتهم والألم الذي يعيشه غالبيتهم بعد حلم الهجرة الكبير الذي كانوا غارقين بسطوته ، ولعل كثيرين منا في كافة أرجاء وطننا العربي يعلم جيدا بل ربما يلمس واقعا وتجاربا عديدة في هذا الصدد ، حيث هناك أناس هاجروا بالفعل وحملوا معهم عاداتهم وتقاليدهم وذهبوا إلى لندن بحثاً عن الحرية والديمقراطية لكنهم اكتشفوا سراب الحرية والديمقراطية وأنها غير متاحة لجميع الناس على السواء، كما أنها في الأساس لا تنسجم مع متطلباتهم وأهدافهم في ظل موروث من القيم والعادات والتقاليد تقف بمثابة سور عازل بين الحلم الرومانسي والواقع العملي ، أو على أقل تقدير هناك حدوداً لحرية العرب في الغرب وحدوداً للديمقراطية ، وتبقى المشكلة الأكبر أن هؤلاء قد أنجبوا في تلك البيئة والظروف الحياتية المغايرة لطبيعة النشأة الأولى ، ومن هنا بدأ صراع محموم بين الأجيال على أثره حدث شرخ كبير بين الآباء والأبناء الذين تزوجوا من جنسيات مختلفة فجاء جيل ثالث تمرد على عروبته ووطنه وبعضهم لا يعترف حتى بأنه عربي وبذلك ضاعت الهوية.
تلك هى الهموم التي تعالجها دراما ( عرب لندن ) والتي قصد بطلها عابد فهد ومعه المؤلف والمخرج الكبير " أنور قوادري " أن تكون مباراة ساخنة في فن الأداء والتجسيد الدرامي الشفاف لشخصيات تحمل في شراينها دماء ساخنة قادمة من قلب حرارة الشرق العربي المفعم بالأسى والحزن والانكسار إلى عمق أجواء أوروبا – لندن - الباردة في مشاعرها ، المجحفة في قوانيها ، والصارمة في عاداتها وتقاليدها الجامدة التي تمعن في العنصرية ، ليصبح المسلسل أو بتعبير أكثر دقة تلك " القطعة الفنية النادرة " في النهاية لوحة تشكليلية من لحم ودم تتصف بالإبداع عبر هذا الزخم الهائل من رقي الأداء التمثيلي الذي أصاب كوكبة من الفنانين العرب - على اختلاف مشاربهم - استحقوا جميعا أدوار البطولة التي انشطرت بوهجها وبريقها الآخاذ طوال حلقات المسلسل الثلاثين وتناثرت على وجوههم الغضة الندية.
ولأنه "عابد " في محراب الفن الدرامي الصادق و" فهد " يتسم بالوعي والنضج والثقافة العروبية ، فقد سعى من خلال " عرب لندن " لأن تكون هناك وحدة عضوية عربية قوية متآلفة ومتماسكة على جناح الدراما ، عبر ممثلين منهم : من مصر " القدير توفيق عبد الحميد ومعه نهال عنبر، نيرمين الفقي ، ياسر فرج ومروة عبد المنعم ، سوريا " الرئعان جهاد سعد وباسل خياط ومعهما واحة الراهب " ، الإمارات " إبراهيم الزجالي " ، السعودية " خالد سامي " ، فلسطين " العالمي محمد بكري ومعه ياسمين المصري " ، الأردن " ميس حمدان " فضلا عن فنانين كبار من المغرب وبريطانيا واليونان .
وعلى الرغم من اختلاف اللهجات واللغات التي جاءت في سياق الحوار فإنك سوف تلمس نعومة شديدة في ربط الأحداث على لسان الممثلين ، ولايمكن أن تشتم رائحة تفاوت في أداء أي من الطرفين على حساب الآخر داخل المشهد الواحد من مشاهد في مجملها اتسمت بالثراء الفني والفكري رفيع المستوى ، ناهيك عن حرارة ودفء المشاعر الصادقة التي لمسناها جميعا بين الحبيب السوري الأصل " سامي " الذي يجسد شخصيته عابد فهد وكلا من حبيبتيه الإنجليزية " سالي " ، و" منى " التي تنحدر من أصول عربية على إختلاف المستوى المعيشي والثقافة والعرق والظروف النفسية والاجتماعية والجروح العميقة العالقة في نفس مهاجر ترك حبيبته في بلده – الأصل - مغادرا إلى لندن بحثا عن مال يحقق أحلامه التي سرعان ماتمزقت أوصالها على أرصفة لندن وساحاتها الفشيحة وصقيعها البارد جدا ، وفي زحمة الحياة كان طبيعي جدا أن تنفرط سنوات العمر في تلك الأجواء تفتقد دفء الشمس على أثر الانكسارات التي عناها غالبية الشخصيات وعلى رأسهم البطل .
وعلى ذات الإيقاع تأتي كل علاقات الحب وعلاقات الصداقة والأخوة في سياق المسلسل الذي يصل إلى حقيقة مهمة جوهرها : ليس ثمة مايفرقنا كعرب " مسلمين ومسيحين " بقدر ما يعتري حياتنا من وشائج وصلات تضرب بجذورها في عمق تربة الأصالة العربية ، بل أن ثمة حبل سري لاح لنا في الأفق خلال هذا العمل الدرامي الناضج يمكن أن يصل الماضي بالحاضربالمستقبل العربي الواحد ليصنع المصير الواحد والمشترك ، رغم ما يحيط بنا من عوامل الفرقة ومؤمرات الغرب الذي يستهدف مواردنا وثرواتنا وتراثنا وحضارتنا التي أضاءت وجه العالم القديم.
لقد وضع الفنان عابد فهد يده على جرح نازف حين قال : لو افترضنا أن نسبة المهاجرين العرب في بلدان الاغتراب تصل إلى ثلاثين بالمئة من مجموع المواطنين العرب ، وهو ما يعني أن هناك عدداً كبيراً من العرب لا يعرفون أوطانهم ولا تاريخهم ولا جغرافيتهم ، وتلك هموم أخرى تضاف إلى الهم الأكبر في الداخل العربي .
أليس ذلك كله جديرا بالاهتمام من جانب شركات الإنتاج الحكومية والخاصة لتوجيه دفة اهتماماتها نحو قضايا من نوعية هذا المسلسل بدلا من تلك القضايا المكررة والمملة والسلاسل العبثية الغارقة في موضوعات الثروة والسلطة والنفوذ وغيرها من وجبات درامية تفتقد إلى أبسط قواعد وأصول العمل الفني الذي يجلب المتعة ، خاصة أن الاعمال الدرامية وكما نعرف تثير في الانسان غريزة من أهم الغرائز البشرية وهي غريزة المحاكاة والتقليد ، وهو ماأكد عليه أرسطو بقوله : إن المحاكاة هي الأصل في الفن ، أي أن الفنون كلها إنما هي مظاهر من المحاكاة ، والمحاكاة غريزية في الانسان وهذا ما يميز الانسان عن الحيوان ، فلقدرته على المحاكاة كان الانسان قادرا على التعلم ، وولع الانسان بالمحاكاة يرجع الى أنه يحصل منها على المتعة ، والمحاكاة هي وسيلة من وسائل الحصول على المعرفة ، فضلا عن وظيفة مهمة للدراما في وقتنا الحالية وهى أن انسان هذا العصريعاني كثيرا من هموم الحياة وضغوطها ويجد في التمثيلية والمسلسل متنفسا له من هذه الهموم .
هوامش :
* توفيق عبد الحميد ( الحاج بيومي ) .. مدرسة راقية في فن الأداء التمثيلي السلس الهادئ الناعم والواع تماما بما يفعل ، هو مرادف للسهل الممتنع ، ينبغي أن نغض الطرف عنه طويلا لحساب أصحاب الصوت العالي من أولئك الذين يتشدقون بالريادة والتطور ليل نهار في الفضاء العربي ، فمثل هذا الفنان الصادق هو تجسيد حي لقمة الريادة وصدق النجومية العاقلة التي لاتعرف الزيف بل تستند إلى فكر و فلسفة وقيمة حقيقية أظنها ستبقى زخيرة حية له في سجل حافل بالفخار.
* جهاد سعد .. طاقة هائلة وقدرة فائقة في فن التجسيد ، داخله بركان يغلي بالموهبة وخارجه مساحات رحبة من الهدوء الإنساني الذي يستفز فيك بواطن القوة والشموخ ، ورغم حالات الانكسار والهزائم النفسية التي لحقت به كعربي مشرد في قلب الصقيع ، لاتفارقه ابتسامة وادعة وحركات بهلوانية " زورباوية " غاية في الرشاقة التي تترك في النفس غصة وفي الحلق مرارة السنوات العجاف ، لقد كانت إيماءاته في لحظات الانسحاب الأخير غاية في بلاغة الصمت الموحش ، تلخص تاريخ " عرب لندن " وتعيد رسم خرائط النفس البشرية العربية المكلومة في غياهب الغربة المحزنة .
* باسل خياط .. رومانسية حالمة وعاقلة في سياق فني بديع ، مغلفة بروح القوة والتحدي في اجتياز أصعب الدروب نحو مستقبل مفروش بورود الأمل الذي يربط بين الجذور والفروع ، إنه فنان حقيقي يمكنه أن يعيد رمن افتقدنا فيه مواصفات النجم والبطل الذي كان يلهب المشاعر والقلوب الملتاعة بالحيرة والأسى .
* مروة عبد المنعم .. براءة حالمة تغطيها مساحات من الظل والنور، ومن فوق ذلك فطرة مصرية تحمل كل معاني الطيبة النابعة من نهر النيل الذي مازال يجري بالخير، أظهرت نضجا ملحوظا ومرونة وانسيابية في الأداء عبر حركات احترافية أمام الكاميرا نقلتها إلى الصفوف الأولى على سلم النجومية الواعية والواعدة .
* محمد بكري .. خبرة وحنكة وقدرة أسطورية على اختصار أعمار طويلة في مشهد تمثيلي يتسم بالثراء المبطن بزبد البحر وموجه الهادر بالموهبة وفورة المحيطات العميقة وحتى الخلجان التي تشق الجبال في تيه وخيلاء . إنها العزيمة الفلسطينية التي لم يثنها غبار السنين والغربة الطويلة ، ليتنا ندرك ونتعلم من هذا الفنان العملاق الدرس الأول في الآداء الصادق والتجسيد الحي النابع من خبرة السنين .
* ياسمين المصري .. موهبة متدفقة ، مثل هديل حمام يتوق للتحليق طويلا وإلى الأعلى ، في نصف ابتسامتها الحزينة حينا ومرحها الطفولي حينا آخر تشتم فيها أريج برتقال يافا ، وبهاء قبة الصخرة وفي تمردها تلمح شموخ وطن محفورفي ذاكرة منسية على شكل خارطة مازلت تعرف كيف تتخطى الجدران العازلة وتصل لعمق التراب النفيس في أرجاء فلسطين .
* إبراهيم الزجالي .. طعم مختلف للخليج العربي تستشعره وتحسه وتلمسه باصابعك ، إنه ألق الموهبة حين تخالط فيه حرقة الصحراء بكثبانها الرملية الناعمة سحابات أوروبا الرمادية في مشهد واحد يكشف عن بريق الفضة والذهب معا في نسيج يجمع بين القوة واللين ويعكس شموخ العربي حين يحن للجذور.
المصدر : ايلاف
